كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وليس لدينا تاريخ محدد لنزول آيات الحج هذه إلا رواية تذكر أن قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} نزلت في الحديبية سنة ست من الهجرة. كذلك ليس لدينا تاريخ مقطوع به لفرضية الحج في الإسلام. سواء على الرأي الذي يقول بأنه فرض بآية: {وأتموا الحج والعمرة لله}.. أو بآية {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً}. الواردة في سورة آل عمران. فهذه كتلك ليس لدينا عن وقت نزولها رواية قطعية الثبوت. وقد ذكر الإمام ابن قيم الجوزية في كتاب: زاد المعاد أن الحج فرض في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة؛ ارتكاناً منه إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم حج حجة الوداع في السنة العاشرة؛ وأنه أدى الفريضة عقب فرضها إما في السنة التاسعة أو العاشرة.
ولكن هذا لا يصلح سنداً. فقد تكون هناك اعتبارات أخرى هي التي جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يؤخر حجه إلى السنة العاشرة. وبخاصة إذا لاحظنا أنه أرسل أبا بكر رضي الله عنه أميراً على الحج في السنة التاسعة. وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك هم بالحج؛ ثم تذكر أن المشركين يحضرون موسم الحج على عادتهم، وأن بعضهم يطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم.. ثم نزلت براءة، فأرسل صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- يبلغ مطلع براءة للناس، وينهي بها عهود المشركين، ويعلن يوم النحر إذا اجتمع الناس بمنى: «أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلى مدته».. ومن ثم لم يحج صلى الله عليه وسلم حتى تطهر البيت من المشركين ومن العرايا..
وهناك ما يستأنس به على أن فريضة الحج وشعائره قد أقرها الإسلام قبل هذا. وقد ورد أن الفريضة كتبت في مكة قبل الهجرة. ولكن هذا القول قد لا يجد سنداً قوياً.
إلا أن آيات سورة الحج المكية- على الأرجح- ذكرت معظم شعائر الحج، بوصفها الشعائر التي أمر الله إبراهيم بها. وقد ورد فيها: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق} {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صوافّ فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين} وقد ذكر في هذه الآيات أو أشير إلى الهدي والنحر والطواف والإحلال من الإحرام وذكر اسم الله. وهي شعائر الحج الأساسية. وكان الخطاب موجهاً إلى الأمة المسلمة موصولة بسيرة أبيهم إبراهيم.
مما يشير إلى فرضية الحج في وقت مبكر، باعتباره شعيرة إبراهيم الذي إليه ينتسب المسلمون. فإذا كانت قد وجدت عقبات من الصراع بين المسلمين والمشركين- وهم سدنة الكعبة إذ ذاك- جعلت أداء الفريضة متعذراً بعض الوقت، فذلك اعتبار آخر. وقد رجحنا في أوائل هذا الجزء أن بعض المسلمين كانوا يؤدون الفريضة أفراداً في وقت مبكر؛ بعد تحويل القبلة في السنة الثانية من الهجرة.
وعلى أية حال فحسبنا هذا عن تاريخ فرض الحج، لنواجه الآيات الواردة هنا عن شعائره، وعن التوجيهات الكثيرة في ثناياها.
{وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب}..
وأول ما يلاحظ في بناء الآية هو تلك الدقة التعبيرية في معرض التشريع، وتقسيم الفقرات في الآية لتستقل كل فقرة ببيان الحكم الذي تستهدفه. ومجيء الاستدراكات على كل حكم قبل الانتقال إلى الحكم التالي.. ثم ربط هذا كله في النهاية بالتقوى ومخافة الله..
والفقرة الأولى في الآية تتضمن الأمر بإتمام أعمال الحج والعمرة إطلاقاً متى بدأ الحاج أو المعتمر فأهلّ بعمرة أو بحج أو بهما معاً؛ وتجريد التوجه بهما لله:
{وأتموا الحج والعمرة لله}..
وقد فهم بعض المفسرين من هذا الأمر أنه إنشاء لفريضة الحج. وفهم بعضهم أنه الأمر بإتمامه متى بدئ- وهذا هو الأظهر- فالعمرة ليست فريضة عند الجميع ومع هذا ورد الأمر هنا بإتمامها كالحج. مما يدل على أن المقصود هو الأمر بالإتمام لا إنشاء الفريضة بهذا النص. ويؤخذ من هذا الأمر كذلك أن العمرة- ولو أنها ابتداء ليست واجبة- إلا أنه متى أهل بها المعتمر فإن إتمامها يصبح واجباً. والعمرة كالحج في شعائرها ما عدا الوقوف بعرفة. والأشهر أنها تؤدى على مدار العام. وليست موقوتة بأشهر معلومات كالحج.
ويستدرك من هذا الأمر العام بإتمام الحج والعمرة حالة الإحصار. من عدو يمنع الحاج والمعتمر من إكمال الشعائر- وهذا متفق عليه- أو من مرض ونحوه يمنع من إتمام أعمال الحج والعمرة- واختلفوا في تفسير الإحصار بالمرض والراجح صحته-:
{فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي}..
وفي هذه الحالة ينحر الحاج أو المعتمر ما تيسر له من الهدي ويحل من إحرامه في موضعه الذي بلغه. ولو كان لم يصل بعد إلى المسجد الحرام ولم يفعل من شعائر الحج والعمرة إلا الإحرام عند الميقات (وهو المكان الذي يهل منه الحاج أو المعتمر بالحج أو العمرة أو بهما معاً، ويترك لبس المخيط من الثياب، ويحرم عليه حلق شعره أو تقصيره أو قص أظافره كما يحرم عليه صيد البر وأكله.
..)
وهذا ما حدث في الحديبية عندما حال المشركون بين النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين دون الوصول إلى المسجد الحرام، سنة ست من الهجرة؛ ثم عقدوا معه صلح الحديبية، على أن يعتمر في العام القادم. فقد ورد أن هذه الآية نزلت؛ وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين الذين معه أن ينحروا في الموضع الذي بلغوا إليه ويحلوا من إحرامهم فتلبثوا في تنفيذ الأمر، وشق على نفوسهم أن يحلوا قبل أن يبلغ الهدي محله- أي مكانه الذي ينحر فيه عادة- حتى نحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه أمامهم وأحل من إحرامه.. ففعلوا..
وما استيسر من الهدي، أي ما تيسر، والهدي من النعم، وهي الإبل والبقر والغنم والمعز، ويجوز أن يشترك عدد من الحجاج في بدنة أي ناقة أو بقرة، كما اشترك كل سبعة في بدنة في عمرة الحديبية، فيكون هذا هو ما استيسر؛ ويجوز أن يهدي الواحد واحدة من الضأن أو المعز فتجزئ.
والحكمة من هذا الاستدراك في حالة الإحصار بالعدو كما وقع في عام الحديبية، أو الإحصار بالمرض، هي التيسير، فالغرض الأول من الشعائر هو استجاشة مشاعر التقوى والقرب من الله، والقيام بالطاعات المفروضة. فإذا تم هذا، ثم وقف العدو أو المرض أو ما يشبهه في الطريق فلا يحرم الحاج أو المعتمر أجر حجته أو عمرته. ويعتبر كأنه قد أتم. فينحر ما معه من الهدى ويحل. وهذا التيسير هو الذي يتفق مع روح الإسلام وغاية الشعائر وهدف العبادة.
وبعد هذا الاستدراك من الأمر الأول العام، يعود السياق فينشئ حكماً جديداً عاماً من أحكام الحج والعمرة.
{ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله}..
وهذا في حالة الإتمام وعدم وجود الإحصار. فلا يجوز حلق الرؤوس- وهو إشارة إلى الإحلال من الإحرام بالحج أو العمرة أو منهما معاً- إلا بعد أن يبلغ الهدي محله. وهو مكان نحره. بعد الوقوف بعرفة، والإفاضة منها. والنحر يكون في منى في اليوم العاشر من ذي الحجة، وعندئذ يحل المحرم. أما قبل بلوغ الهدي محله فلا حلق ولا تقصير ولا إحلال.
واستدراكاً من هذا الحكم العام يجيء هذا الاستثناء:
{فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}..
ففي حالة ما إذا كان هناك مرض يقتضي حلق الرأس، أو كان به أذى من الهوام التي تتكون في الشعر حين يطول ولا يمشط، فالإسلام دين اليسر والواقع يبيح للمحرم أن يحلق شعره،- قبل أن يبلغ الهدي الذي ساقه عند الإحرام محله، وقبل أن يكمل أفعال الحج- وذلك في مقابل فدية: صيام ثلاثة أيام، أو صدقة بإطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة والتصدق بها.
وهذا التحديد لحديث النبي صلى الله عليه وسلم قال البخاري- بإسناده إلى كعب بن عجرة- قال: «حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي. فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا. أما تجد شاة؟ قلت: لا. قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، وأحلق رأسك».
ثم يعود إلى حكم جديد عام في الحج والعمرة:
{فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي}..
أي فإذا لم تحصروا، وتمكنتم من أداء الشعائر، فمن أراد التمتع بالعمرة إلى الحج فلينحر ما استيسر من الهدي.. وتفصيل هذا الحكم: أن المسلم قد يخرج للعمرة فيهل محرماً عند الميقات. حتى إذا فرغ من العمرة- وهي تتم بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة- أحرم للحج وانتظر أيامه. وهذا إذا كان في أشهر الحج، وهي شوال وذو القعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة.. هذه صورة من صور التمتع بالحج إلى العمرة. والصورة الثانية هي أن يحرم من الميقات بعمرة وحج معاً. فإذا قضى مناسك العمرة انتظر حتى يأتي موعد الحج. وهذه هي الصورة الثانية للتمتع- وفي أي من الحالتين على المعتمر المتمتع أن ينحر ما استيسر من الهدي بعد العمرة ليحل منها؛ ويتمتع بالإحلال ما بين قضائه للعمرة وقضائه للحج. وما استيسر يشمل المستطاع من الأنعام سواء الإبل والبقر أو الغنم والمعز.
فإذا لم يجد ما استيسر من الهدي فهناك فدية:
{فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة}..
والأولى أن يصوم الأيام الثلاثة الأولى قبل الوقوف بعرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة. أما الأيام السبعة الباقية فيصومها بعد عودته من الحج إلى بلده.. {تلك عشرة كاملة}.. ينص عليها نصاً للتوكيد وزيادة البيان.. ولعل حكمة الهدي أو الصوم هي استمرار صلة القلب بالله، فيما بين العمرة والحج، فلا يكون الإحلال بينهما مخرجاً للشعور عن جو الحج، وجو الرقابة، وجو التحرج، الذي يلازم القلوب في هذه الفريضة..
ولما كان أهل الحرم عماره المقيمين فيه لا عمرة لهم.. إنما هو الحج وحده.. لم يكن لهم تمتع، ولا إحلال بين العمرة والحج. ومن ثم فليس عليهم فدية ولا صوم بطبيعة الحال:
{ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}.
وعند هذا المقطع من بيان أحكام الحج والعمرة يقف السياق ليعقب تعقيباً قرآنياً، يشد به القلوب إلى الله وتقواه:
{واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب}..
وهذه الأحكام ضمان القيام بها هو هذه التقوى، وهي مخافة الله، وخشية عقابه. والإحرام بصاحبه تحرج. فإذا أباح لهم الإحلال فترة أقام تقوى الله وخشيته في الضمير، تستجيش فيه هذا التحرج، وتقوم بالحراسة في انتباه!
ثم يمضي في بيان أحكام الحج خاصة؛ فيبين مواعيده، وآدابه، وينتهي في هذا المقطع الجديد إلى التقوى كما انتهى إليها في المقطع الأول سواء:
{الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب}..
وظاهر النص أن للحج وقتاً معلوماً، وأن وقته أشهر معلومات.. هي شوال وذو القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجة.. وعلى هذا لا يصح الإحرام بالحج إلا في هذه الأشهر المعلومات وإن كان بعض المذاهب يعتبر الإحرام به صحيحاً على مدار السنة، ويخصص هذه الأشهر المعلومات لأداء شعائر الحج في مواعيدها المعروفة. وقد ذهب إلى هذا الرأي الأئمة: مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل. وهو مروي عن إبراهيم النخعي والثوري والليث بن سعد وذهب إلى الرأي الأول الإمام الشافعي وهو مروي عن بن عباس وجابر وعطاء وطاووس ومجاهد. وهو الأظهر.
فمن فرض الحج في هذه الأشهر المعلومات- أي أوجب على نفسه إتمامه بالإحرام- {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}.. والرفث هنا ذكر الجماع ودواعيه إما إطلاقاً وإما في حضرة النساء. والجدال: المناقشة والمشادة حتى يغضب الرجل صاحبه. والفسوق: إتيان المعاصي كبرت أم صغرت.. والنهي عنها ينتهي إلى ترك كل ما ينافي حالة التحرج والتجرد لله في هذه الفترة، والارتفاع على دواعي الأرض، والرياضة الروحية على التعلق بالله دون سواه، والتأدب الواجب في بيته الحرام لمن قصد إليه متجرداً حتى من مخيط الثياب!
وبعد النهي عن فعل القبيح يحبب إليهم فعل الجميل:
{وما تفعلوا من خير يعلمه الله}..
ويكفي في حس المؤمن أن يتذكر أن الله يعلم ما يفعله من خير ويطلع عليه، ليكون هذا حافزا على فعل الخير، ليراه الله منه ويعلمه.. وهذا وحده جزاء.. قبل الجزاء..
ثم يدعوهم إلى التزود في رحلة الحج.. زاد الجسد وزاد الروح.. فقد ورد أن جماعة من أهل اليمن كانوا يخرجون من ديارهم للحج ليس معهم زاد، يقولون: نحج بيت الله ولا يطعمنا! وهذا القول- فوق مخالفته لطبيعة الإسلام التي تأمر باتخاذ العدة الواقعية في الوقت الذي يتوجه فيه القلب إلى الله ويعتمد عليه كل الاعتماد- يحمل كذلك رائحة عدم التحرج في جانب الحديث عن الله، ورائحة الامتنان على الله بأنهم يحجون بيته فعليه أن يطعمهم!! ومن ثم جاء التوجيه إلى الزاد بنوعيه، مع الإيحاء بالتقوى في تعبير عام دائم الإيحاء:
{وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
واتقون يا أولي الألباب}..